الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من أقوال المفسرين: .قال القرطبي: قوله تعالى: {آمَنَ الرسول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ}.روي عن الحسن ومجاهد والضحاك: أن هذه الآية كانت في قصة المعراج، وهكذا روي في بعض الروايات عن ابن عباس، وقال بعضهم: جميع القرآن نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم إلا هذه الآية فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم: هو الذي سمع ليلة المعراج، وقال بعضهم: لم يكن ذلك في قصة المعراج؛ لأن ليلة المعراج كانت بمكة وهذه السورة كلها مدنية، فأما من قال: إنها كانت ليلة المعراج قال: لما صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم وبلغ في السموات في مكان مرتفع ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى فقال له جبريل: إني لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر بالمجاوزة أحد هذا الموضع غيرك فجاوز النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله، فأشار إليه جبريل بأن سلم على ربك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: التّحيّاتُ لله والصلواتُ والطيِّبات.قال الله تعالى: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكون لأُمته حَظٌّ في السلام فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل وأهل السموات كلهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.قال الله تعالى: {آمَنَ الرسول} على معنى الشكر أي صدق الرسول {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشارك أُمته في الكرامة والفضيلة فقال: {والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} يعني يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بأحد منهم ولا نفرّق بينهم كما فرّقت اليهود والنصارى، فقال له ربه كيف قبولهم بآي الذي أنزلتها؟ وهو قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} يعني المرجع.فقال الله تعالى عند ذلك {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} يعني طاقتها ويقال: إلاَّ دُون طاقتها.{لَهَا مَا كَسَبَتْ} من الخير {وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} من الشر، فقال جبريل عند ذلك: سل تُعْطَه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا} يعني إن جهلنا {أَوْ أَخْطَأْنَا} يعني إن تعمدنا، ويقال: إن عملنا بالنسيان والخَطَأ.فقال له جبريل: قد أعطيت ذلك قد رفع عن أُمتك الخطأ والنسيان.فسل شيئًا آخر فقال: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} يعني ثقلًا {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} وهو أنه حرّم عليهم الطيِّبات بظلمهم، وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوا ذلك مكتوبًا على بابهم، وكانت الصلوات عليهم خمسين، فخفّف الله عن هذه الأُمة وحَطّ عنهم بعد ما فرض خمسين صلاة.ثم قال: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يقول: لا تثقلنا من العمل ما لا نطيق فتعذبنا، ويقال: ما تشق علينا؛ لأنهم لو أمروا بخمسين صلاة لكانوا يطيقون ذلك ولكنه يشق عليهم ولا يطيقون الإدامة عليه {واعف عَنَّا} من ذلك كله {واغفر لَنَا} وتجاوز عنا، ويقال: {واعف عَنَّا} من المسخ {واغفر لَنَا} من الخسف {وارحمنا} من القذف؛ لأن الأُمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ وبعضهم أصابهم الخسف وبعضهم القذف ثم قال: {أَنتَ مَوْلاَنَا} يعني ولينا وحافظنا {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فاستجيبت دعوته.وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» ويقال إن الغُزَاة: إذا خرجوا من ديارهم بالنية الخالصة وضربوا بالطبل وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر في شهر، علموا بخروجهم أو لم يعلموا، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما رجع أوحى الله هذه الآيات؛ ليعلم أُمّته بذلك.ولهذه الآية تفسير آخر؛ قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة وبيّن أحكام الحج وحكم الحيض والطلاق والإيلاء وأقاصيص الأنبياء وبين حكم الربا، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله سبحانه وتعالى: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال: {آمَنَ الرسول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} أي صدّق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤمنون كلهم صدّقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله.وقيل سبب نزولها الآية التي قبلها وهي {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإنه لما أنزل هذا على النبيّ صلى الله عليه وسلم اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بَرَكُوا على الرُّكَب فقالوا: أي رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نُطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نُطيقها.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.فلما اقترأها القوم ذَلّت بها ألسنتُهم فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرسول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير}.فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله عز وجل: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم {واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنا أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} قال: نعم أخرجه مسلم عن أبي هريرة.قال علماؤنا: قوله في الرواية الأُولى قد فعلت وهنا قال: نعم دليل على نقل الحديث بالمعنى، وقد تقدّم.ولما تقرّر الأمر على أن قالوا: سمعنا وأطعنا، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، ورفع المشقَّةَ في أمر الخواطر عنهم؛ وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى؛ كما جرى لبني إسرائيل ضدُّ ذلك من ذمّهم وتحميلهم المشقّات من الذّلّة والمسكنة والانْجِلاء إذ قالوا: سمعنا وعصينا؛ وهذه ثمرة العصيان والتمرّد على الله تعالى، أعاذنا الله من نِقَمِه بمنّه وكرمه.وفي الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قيل له: «إن بيت ثابت بن قيس بن شماس يزهَر كل ليلة بمصابيح. قال:فلعله يقرأ سورة البقرة» فسُئِل ثابت قال: قرأت من سورة البقرة {آمَنَ الرسول} نزلت حين شقّ على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ما توعدهم الله تعالى به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «فلعلكم تقولون سمعنا وعصينا كما قالت بنو إسرائيل» قالوا: بل سمعنا وأطعنا؛ فأنزل الله تعالى ثناء عليهم {آمَنَ الرسول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} فقال صلى الله عليه وسلم: «وحق لهم أن يؤمنوا». اهـ..قال الفخر: قوله تعالى: {آمن الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ} فالمعنى أنه عرف بالدلائل القاهرة والمعجزات الباهرة أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام نزل من عند الله تعالى، وليس ذلك من باب إلقاء الشياطين، ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة، وإنما عرف الرسول لأنه صلى الله عليه وسلم ذلك بما ظهر من المعجزات القاهرة على يد جبريل عليه السلام.فأما قوله: {والمؤمنون} ففيه احتمالان أحدهما: أن يتم الكلام عند قوله: {والمؤمنون} فيكون المعنى: آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه، ثم ابتدأ بعد ذلك بقوله: {كُلٌّ آمَنَ بالله} والمعنى: كل واحد من المذكورين فيما تقدم، وهم الرسول والمؤمنون آمن بالله.الاحتمال الثاني: أن يتم الكلام عند قوله: {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ} ثم يبتدئ من قوله: {والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله} ويكون المعنى أن الرسول آمن بكل ما أنزل إليه من ربه، وأما المؤمنون فإنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، فالوجه الأول يشعر بأنه عليه الصلاة والسلام ما كان مؤمنًا بربه، ثم صار مؤمنًا به، ويحتمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال، وعلى الوجه الثاني يشعر اللفظ بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي أنزلت عليه، كما قال: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وأما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال، فقد كان حاصلًا منذ خلقه الله من أول الأمر، وكيف يستبعد ذلك مع أن عيسى عليه السلام حين انفصل عن أمه قال: إني عبد الله آتاني الكتاب، فإذا لم يبعد أن عيسى عليه السلام رسولًا من عند الله حين كان طفلًا، فكيف يستبعد أن يقال: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان عارفًا بربه من أول ما خلق كامل العقل. اهـ..قال الألوسي: {والمؤمنون} يجوز أن يكون معطوفًا على الرسول مرفوعًا بالفاعلية فيوقف عليه، ويدل عليه ما أخرجه أبو داود في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ وآمن المؤمنون وعليه يكون قوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ} جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر؛ وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ، و{كُلٌّ} مبتدأ ثان، و{مِن} خبره، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون {كُلٌّ} تأكيدًا لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدًا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظًا إلى ضميرها ورجح الوجه الأول بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينئذ يكون أصلًا في حكم الإيمان بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لكون جملتهم إسمية ومؤكدة، وعورض بأن في الثاني إيذانًا بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيدًا للإشعار بما بين إيمانه صلى الله عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشيء عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب؛ ويلزم على الأول: أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلى الله عليه وسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطًا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتًا وتعلقًا بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله عليه وسلم واللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافًا بينًا ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الإتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الإسناد المقوي للحكم لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك، وتوحيد الضمير في {مِن} مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} [النمل: 87] وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله آمن {بالله} أي صدق به وبصفاته ونفى التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك {وَمَلَئِكَتُهُ} من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى: {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلًا من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالًا وإنما لم يذكر هاهنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 771] الخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيرًا ما يختصر فيها. اهـ.
|